فصل: سورة الممتحنة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة الممتحنة

بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

 الاية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 3‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ‏.‏ إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ‏.‏ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير ‏}‏

كان  سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة ‏"‏حاطب بن أبي بلتعة‏"‏، وذلك أن حاطباً هذا كان رجلاً من المهاجرين وكان من أهل بدر أيضاً، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، فلما عزم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على فتح مكّة لما نقض أهلها العهد، أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال‏:‏ ‏(‏اللهم عمِّ عليهم خبرَنا‏)‏، فعمد حاطب هذا فكتب كتاباً، وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يداً‏.‏ روى الإمام أحمد، عن علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال‏:‏ ‏(‏انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها‏)‏، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا‏:‏ أخرجي الكتاب، قالت‏:‏ ما معي كتاب، قلنا‏:‏ لتخرجن الكتاب، أو لنلقينّ الثياب، قال‏:‏ فأخرجت الكتاب من عقاصها، فأخذنا الكتاب، فأتينا به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإذا فيه‏:‏ من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين، بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا حاطب ما هذا‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لا تعجل عليّ، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه صدقكم‏)‏، فقال عمر‏:‏ دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل اللّه اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏)‏‏.‏ ونزلت فيه‏:‏‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء‏}‏ ‏"‏أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه‏"‏‏.‏ وهكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق‏}‏ يعني المشركون والكفّار الذين هم محاربون للّه ولرسوله، نهى اللّه أن يتخذوهم أولياء وأصدقاء وأخلاء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏}‏ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة‏}‏ ولهذا قبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عذر حاطب، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخرجون الرسول وإياكم‏}‏ هذا مع ما قبله من التهييج على عدواتهم وعدم موالاتهم لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم، كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة للّه وحده، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أن تؤمنوا باللّه ربكم‏}‏ أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم باللّه رب العالمين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد‏}‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا اللّه‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي‏}‏ أي إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء، إن كنت خرجتم مجاهدين في سبيلي فلا توالوا أعدائي، وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم، حنقاً عليكم وسخطاً لدينكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم‏}‏ أي تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر، ‏{‏ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل * إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء‏}‏ أي لو قدروا عليكم لما اتقوا فيكم من أذى ينالوكم به بالمقال والفعال، ‏{‏وودوا لو تكفرون‏}‏ أي ويحرصون على أن لا تنالوا خيراً، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة فكيف توالون مثل هؤلاء‏؟‏ وهذا تهييج على عدواتهم أيضاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم واللّه بما تعملون بصير‏}‏ أي قراباتكم لا تنفعكم عند اللّه، إذا أراد اللّه بكم سوءاً، ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط اللّه، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم، فقد خاب وخسر وضل عمله، ولا ينفعه عند اللّه قرابته من أحد‏.‏

 الاية رقم ‏(‏4 ‏:‏ 6‏)‏

‏{‏ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ‏.‏ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ‏.‏ لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ‏}‏

يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين والتبري منهم‏:‏ ‏{‏قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه‏}‏ أي وأتباعه الذين آمنوا معه، ‏{‏إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم‏}‏ أي تبرأنا منكم ‏{‏ومما تعبدون من دون اللّه كفرنا بكم‏}‏ أي بدينكم وطريقكم ‏{‏وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً‏}‏ يعني وقد شرعت العدواة والبغضاء بيننا وبينكم، ما دمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم ‏{‏حتى تؤمنوا باللّه وحده‏}‏ أي إلى أن توحدوا اللّه فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك‏}‏ أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة، تتأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لأبيه، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه؛ فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه، وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم، ويقولون‏:‏ إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏‏.‏ وقال تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من اللّه من شيء‏}‏ أي ليس لكم في ذلك أسوة أي في الاستغفار للمشركين، هكذا قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد‏.‏ ثم قال تعالى مخبراً عن قول إبراهيم والذين معه، حين فارقوا قومهم وتبرأوا منهم، فقالوا‏:‏ ‏{‏ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير‏}‏ أي توكلنا عليك في جميع الأمور، وسلمنا أمورنا إليك وفوضناها إليك، وإليك المصير أي المعاد في الدار الآخرة ‏{‏ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولوا‏:‏ لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا، وقال قتادة‏:‏ لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه، واختاره ابن جرير‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لا تسلطهم علينا فيفتنونا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ أي واستر ذنوبنا عن غيرك، واعف عنها فيما بيننا وبينك ‏{‏إنك أنت العزيز‏}‏ أي الذي لا يضام من لاذ بجانبك، ‏{‏الحكيم‏}‏ في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر‏}‏، وهذا تأكيد لما تقدم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر‏}‏ تهييج إلى ذلك لكل مؤمن باللّه والمعاد، وقوله تعالى ‏{‏ومن يتول‏}‏ أي عما أمر اللّه به، ‏{‏فإن اللّه هو الغني الحميد‏}‏، كقوله تعالى ‏{‏إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن اللّه لغني حميد‏}‏، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏الغني‏}‏ الذي قد كمل في غناه، وهو اللّه ليس كمثله شيء، و‏{‏الحميد‏}‏ المستحمد إلى خلقه، أي هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله، لا إله غيره ولا رب سواه‏.‏

 الاية رقم ‏(‏ 7 ‏:‏ 9‏)‏

‏{‏ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ‏.‏ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ‏.‏ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ‏}‏

يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعدواة الكافرين‏:‏ ‏{‏عسى اللّه أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة‏}‏ أي محبة بعد البغضة، ومودة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة، ‏{‏واللّه قدير‏}‏ أي على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمختلفة، فيؤلف بين القلوب بعد العدواة والقساوة، فتصبح مجتمعة متفقة، كما قال تعالى ممتناً على الأنصار‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً‏}‏، وكذا قال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألم أجدكم ضلاّلاً فهداكم اللّه بي، وكنتم متفرقين فألفكم اللّه بي‏؟‏‏)‏، وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لو أنفقت ما

في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن اللّه ألف بينهم إنه عزيز حكيم‏}‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏أحبب حبيبك هوناً ما، فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه غفور رحيم‏}‏ أي يغفر للكافرين كفرهم، إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له، وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان، وعن ابن شهاب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استعمل أبا سفيان صخر بن حرب على بعض اليمن، فلما قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أقبل، فلقي ذا الخمار مرتداً، فقاتله فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين، قال ابن شهاب‏:‏ وهو ممن أنزل اللّه فيه‏:‏ ‏{‏عسى اللّه أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم‏}‏، أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة، الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم ‏{‏أن تبروهم‏}‏ أي تحسنوا إليهم، ‏{‏وتقسطوا إليهم‏}‏ أي تعدلوا، ‏{‏إن اللّه يحب المقسطين‏}‏‏.‏ عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما قالت‏:‏ قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول اللّه إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم صلي أُمك‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان والإمام أحمد‏"‏‏.‏ وقال الإمام أحمد حدثنا عارم، حدثنا عبد اللّه بن المبارك، حدثنا مصعب ابن ثابت، حدثنا عن عبد اللّه بن الزبير قال‏:‏ قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب وقرظ وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين‏}‏ إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها ‏"‏رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه يحب المقسطين‏}‏ في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا‏)‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما ينهاكم اللّه عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم‏}‏ أي إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم بالعداوة فقاتلوكم وأخرجوكم وعاونوا على إخراجكم، ينهاكم اللّه عزَّ ووجلَّ عن موالاتهم ويأمركم بمعاداتهم، ثم أكد الوعيد على موالاتهم، فقال‏:‏ ‏{‏ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين‏}‏‏.‏

 الاية رقم ‏(‏10 ‏:‏ 11‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم ‏.‏ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ‏}‏

تقدم في سورة الفتح ذكر صلح الحُدَيبية، الذي وقع بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين كفار قريش، فكان فيه‏:‏ على أن لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصِّصة للسنة، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة، فإن اللّه عزَّ وجلَّ أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن، فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار ‏{‏لا هنَّ حل لهم ولا هم يحلون لهنّ‏}‏، و سبب النزول ما روي أنه لما هاجرت ‏"‏أُم كلثوم‏"‏بنت عقبة بن أبي معيط، خرج أخواها عمارة و الوليد حتى قدما على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلماه فيها أن يردها إليهما، فنقض اللّه العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة، فمنعهم أن يردوهن إلى المشركين وأنزل اللّه آية الامتحان ‏"‏ذكره في المسند الكبير في ترجمة عبد اللّه بن جحش‏"‏، روى ابن جرير، عن أبي نصر الأسدي قال‏:‏ سئل ابن عباس كيف كان امتحان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النساء، قال‏:‏ كان يمتحنهن

باللّه ما خرجت من بغض زوج، وباللّه ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وباللّه ما خرجت التماس دنيا، وباللّه ما خرجت إلا حباً للّه ولرسوله ‏"‏رواه ابن جرير ورواه البزار من طريقه وذكر أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمر بن الخطاب‏"‏‏.‏ وقال ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن‏}‏ كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبد اللّه ورسوله، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فامتحنوهن‏}‏ فاسألوهن عما جاء بهن، فإن كان جاء بهن غضب على أزواجهن أو سخطة أو غيره ولم يؤمنَّ فارجعوهن إلى أزواجهن، وقال عكرمة‏:‏ يقال لها ما جاء بك إلا حب اللّه ورسوله، وما جاء بك عشق رجل منا، ولا فرار من زوجك، فذلك قوله ‏{‏فامتحنوهن‏}‏، وقال قتادة‏:‏ كانت محنتهن أن يستحلفن باللّه ما أخرجكن النشوز، وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله، وحرص عليه، فإذا قلن ذلك قبل ذلك منهن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار‏}‏ فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقيناً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن‏}‏ هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك مؤمنة، ولهذا كان أمر أبي العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى اللّه عليه وسلم زينب رضي اللّه عنها، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديخة، فلما رآها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رقّ لها رقة شديدة وقال للمسلمين‏:‏ ‏(‏إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا‏)‏، ففعلوا، فأطلقه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول اللّه صلى

اللّه عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي اللّه عنه، فاقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان فردها إليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقاً؛ كما روى الإمام أحمد، عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح، ولم يحدث شهادة ولا صداقاً ‏"‏أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه‏"‏‏.‏ وروي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد ‏"‏أخرجه عبد بن حميد والعمل عليه عند أهل العلم‏"‏، والذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم انفسخ نكاحها منه، وقال آخرون‏:‏ بل إذا انقضت العدة هي بالخيار إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت، وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت، وحملوا عليه حديث ابن عباس واللّه أعلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوهم ما أنفقوا‏}‏ يعني أزواج المهاجرات من المشركين ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصدقة قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغير واحد ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن‏}‏ يعني إذا أعطيتموهن أصدقتهن فأنكحوهن بشرطه، من انقضاء العدة والولي وغير ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏}‏ تحريم من اللّه عزَّ وجلَّ على عباده المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن، وفي الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء من المؤمنات فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات‏}‏ إلى قوله ‏{‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏}‏ فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأُخْرَى صفوان بن أُميّة وقال الزهري‏:‏ أنزلت هذه الآية على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو باسفل الحديبية، حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاء النساء نزلت هذه الآية، وامره أن يرد الصداق إلى أزواجهن، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين، أن يردوا الصداق إلى أزواجهن وقال‏:‏ ‏{‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏}‏ وإنما حكم اللّه بينهم بذلك لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا‏}‏ أي وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم، اللاتي يذهبن إلى الكفار إن ذهبن، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم حكم اللّه يحكم بينكم‏}‏ أي في الصلح واستثناء النساء منه، والأمر بهذا كله هو حكم اللّه يحكم به بين خلقه، ‏{‏واللّه عليم حكيم‏}‏ أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ هذا في الكفار ليس لهم عهد، إذا فرت إليهم امرأة، ولم يدفعوا إلى زوجها شيئاً، فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شيء، حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل نفقته عليها، وقال ابن عباس في هذه الآية‏:‏ يعني إذا لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار، أمر له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه يعطى مثل ما أنفق من الغنيمة، وهكذا قال مجاهد ‏{‏فعاقبتم‏}‏ أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم ‏{‏فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا‏}‏ يعني مهر مثلها، وهذا لا ينافي الأول، لأنه إن أمكن الأول فهو الأولى، وإلا فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار، وهذا أوسع، وهو اختيار ابن جرير ‏"‏في اللباب، أخرج ابن أبي حاتم‏:‏ ‏{‏وإن فاتكم‏}‏ نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت فتزوجها ثقفي‏"‏‏.‏

 الاية رقم ‏(‏12‏)‏

‏{‏ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ‏}‏

روى البخاري، عن عروة أن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم أخبرته أن رسول اللّه

صلى اللّه عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك‏}‏ إلى قوله ‏{‏غفور رحيم‏}‏، قال عروة، قالت عائشة‏:‏ فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قد بايعتك‏)‏ كلاماً، ولا واللّه ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط، ما يبايعهن إلا بقوله‏:‏ ‏(‏قد بايعتك على ذلك‏)‏ هذا لفظ البخاري‏.‏

وروى الإمام أحمد، عن أمية بنت رقيقة قوله أمية بنت رقيقة هي أخت السيدة خديخة وخالة فاطمة الزهراء‏"‏قالت‏:‏ أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن ‏{‏أن لا نشرك باللّه شيئاً‏}‏ الآية، وقال‏:‏ ‏{‏فيما استطعتن وأطقتن‏)‏، قلنا اللّه ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا‏:‏ يا رسول اللّه ألا تصافحنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والترمذي والنسائي‏"‏‏.‏ وعن سلمى بنت قيس وكانت إحدى خالات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وقد صلت معه القبلتين، قالت‏:‏ جئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، نبايعه في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا أن لا نشرك باللّه شيئاً ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، قال‏:‏ ‏(‏ولا تغششن أزواجكن‏)‏ قالت‏:‏ فبايعناه، ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن‏:‏ ارجعي فسلي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ما غش أزواجنا‏؟‏ قال، فسألته فقال‏:‏ ‏(‏تأخذ ماله فتحابي به غيره‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد‏"‏‏.‏ وقال الإمام أحمد، عن عائشة بنت قدامة - يعني ابن مظعون - قالت‏:‏ أنا مع أمي رائطة بنة سفيان الخزاعية والنبي صلى اللّه عليه وسلم يبايع النسوة ويقول‏:‏ ‏(‏أبايعكن على أن لا تشركن باللّه شيئاً، ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصينني في معروف - قلن نعم - فيما استطعتن‏(‏ فكن يقلن وأقول معهن وأمي تقول لي‏:‏ أي بنية نعم، فكنت أقول كما يقلن‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد أيضاً‏.‏ وقال البخاري، عن أُم عطية قالت‏:‏ بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقرأ علينا ‏{‏ولا تشركن باللّه شيئاً‏}‏، ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها، وقالت‏:‏ أسعدتني فلانة، فأريد أن أجزيها، فما قال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئاً، فانطلقت ورجعت فبايعها، وفي رواية‏:‏ فما وفى منهن امرأة غيرها وغير أم سليم بنة ملحان ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم‏"‏‏.‏

وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتعاهد النساء بهذه البيعة يوم العيد، كما روى البخاري، عن ابن عباس، قال‏:‏ شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد، فنزل نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم اقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن باللّه شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف‏}‏ حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ‏:‏ ‏(‏أنتن على ذلك‏؟‏‏)‏ فقالت امرأة واحدة ولم يجبه غيرها‏:‏ نعم يا رسول اللّه، ولا يدري حس من هي، قال‏:‏ فتصدقن، قال‏:‏ وبسط بلال ثوبه، فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال ‏"‏أخرجه البخاري‏"‏‏.‏ وعن عبادة بن الصامت قال‏:‏ كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مجلس فقال‏:‏ ‏(‏تبايعوني على أن لا تشركوا باللّه شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم - قرأ الآية التي أخذت على النساء إذا جاءك المؤمنات - فمن وفى منكم فأجره على اللّه، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره اللّه عليه فهو إلى اللّه إن شاء غفر له وإن شاء عذبه‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم‏"‏‏.‏ وقد روى ابن جرير، عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال‏:‏ ‏(‏قل لهن إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبايعكن على أن لا تشركن باللّه شيئاً‏)‏ وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة التي شقت بطن حمزة متنكرة في النساء، فقالت هند وهي متنكرة‏:‏ كيف تقبل من النساء شيئاً لم تقبله من الرجال‏؟‏ فنظر إليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال لعمر‏:‏ ‏(‏قل لهن‏:‏ ولا يسرقن‏)‏، قالت هند‏:‏ واللّه إني لأصيب من أبي سفيان الهنات ما أدري أيحلهن لي أم لا، قال أبو سفيان‏:‏ ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حلال، فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وعرفها، فقال‏:‏ ‏(‏ولا يزنين‏)‏، فقالت‏:‏ يا رسول اللّه وهل تزني امرأة حرة، قال‏:‏ ‏(‏لا واللّه ما تزني الحرة‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يقتلن أولادهن‏)‏‏.‏ قالت هند‏:‏ أنت قتلتهم يوم بدر فأنت وهم أبصر، قال‏:‏ ‏{‏ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏ولا يعصينك في معروف‏}‏ قال‏:‏ منعهن أن ينحن، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب، ويخدشن الوجوه، ويقطعن الشعور، ويدعون بالويل والثبور ‏"‏أخرجه ابن جرير قال ابن كثير‏:‏ في بعضه نكارة وهو أثر غريب‏"‏‏.‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ أنزلت هذه الآية يوم الفتح، بايع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرجال على الصفا، وعمر بايع النساء يحلفهن عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فذكر بقيته كما تقدم، وزاد‏:‏ فلما قال‏:‏ ‏(‏ولا تقتلن أولادكن‏)‏ قالت هند‏:‏ ربيناهم صغاراً فقتلتموهم كباراً، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك‏}‏ أي من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها، على أن لا يشركن باللّه شيئاً، ولا يسرقن أموال الناس الأجانب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزنين‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً‏}‏‏.‏ وقال الإمام أحمد، عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ جاءت ‏"‏فاطمة بنت عتبة‏"‏تبايع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخذ عليها ‏{‏أن لا يشركن باللّه شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين‏}‏ الآية قال‏:‏ فوضعت يدها على رأسها حياءً، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة‏:‏ أقّري أيتها المرأة، فواللّه ما بايعنا إلا على هذا، قالت‏:‏ فنعم إذاً، فبايعها بالآية ‏"‏رواه الإمام أحمد‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يقتلن أولادهن‏}‏ وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود، عن أبي هريرة أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول حين نزلت آية الملاعنة‏:‏ ‏(‏أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من اللّه في شيء ولن يدخلها اللّه الجنة‏)‏ وايما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب اللّه منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين‏)‏ ‏"‏أخرجه أبو داود‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يعصينك في معروف‏}‏ يعني فيما أمرتهن به من معروف، ونهيتهن عنه من منكر، عن ابن عباس قال‏:‏ إنما هو شرط شرطه اللّه للنساء، وقال ابن زيد‏:‏ أمر اللّه بطاعة رسوله وهو خيرة اللّه من خلقه في المعروف، وقد قال غير واحد‏:‏ نهاهن يومئذ عن النوح، وعن الحسن قال‏:‏ كان فيما أخذ النبي صلى اللّه عليه وسلم، ألا تحدثن الرجال إلا أن تكون ذات محرم، فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يمذي بين فخذيه ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏، وقال ابن جرير، عن أم عطية الأنصارية قالت‏:‏ كان فيما اشترط علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المعروف حين بايعناه أن لا ننوح، فقالت امرأة من بني فلان‏:‏ إن بني فلان أسعدوني، فلا حتى أجزيهم، فانطلقت فأسعدتهم، ثم جاءت فبايعت، قالت‏:‏ فما وفى منهن غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان أم أنَس بن مالك ‏"‏أخرجه ابن جرير ورواه البخاري بنحوه‏"‏‏.‏ وعن امرأة من المبايعات قالت‏:‏ ‏(‏كان فيما أخذ علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن لا نعصيه في معروف أن لا نخمش وجهاً، ولا ننشر شعراً، ولا نشق جيباً ولا ندعو ويلاً‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ وروى ابن جرير عن أم عطية قالت‏:‏ ‏(‏لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فقام على الباب وسلم علينا فرددن، أو فرددنا عليه السلام ثم قال‏:‏ أنا رسول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليكن، فقالت، فقلنا‏:‏ مرحباً برسول اللّه وبرسول رسول اللّه، فقال‏:‏ تبايعن على أن لا تشركن باللّه شيئاً ولا تسرقن ولا تزنين، قالت‏:‏ فقلنا‏:‏ نعم، قالت، فمد يده من خارج الباب أو البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال‏:‏ اللهم اشهد، قالت‏:‏ وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحيض والعواتق ولا جمعة علينا، ونهى عن اتباع الجنائز، قال إسماعيل‏:‏ فسألت جدتي عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يعصينك في معروف‏}‏ قالت‏:‏ النياحة ‏"‏رواه ابن جرير‏"‏‏.‏ وفي الصحيحن عن عبد اللّه بن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان‏"‏‏.‏ وعن أم سلمة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يعصينك في معروف‏}‏، قال‏:‏ النوح‏.‏

 الاية رقم ‏(‏13‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ‏}‏

ينهى تبارك وتعالى عن  موالاة الكافرين في آخر هذه السورة، كما نهى عنها في أولها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب اللّه عليهم‏}‏ يعني اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب اللّه عليه ولعنه، واستحق من اللّه الطرد والإبعاد، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء ‏{‏قد يئسوا من الآخرة‏}‏ أي من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم اللّه عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كما يئس الكفار من أصحاب القبور‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم، الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك، لأنهم لا يعتقدون بعثاً ولا نشوراً، فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه، قال ابن عباس‏:‏ يعني من مات من الذين كفروا، فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم اللّه عزَّ وجلَّ، وقال الحسن البصري الكفار لأحياء قد يئسوا من الأموات، وقال قتادة‏:‏ كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا‏.‏ والقول الثاني‏:‏ معناه كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير وهو قول مجاهد وعكرمة ومقاتل وابن زيد الكلبي قال ابن مسعود‏:‏ ‏{‏كما يئس الكفار من أصحاب القبور‏}‏ قال‏:‏ كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه، وهو اختيار ابن جرير رحمه اللّه‏.‏